صلاح رشاد .. يكتب: مكة والمدينة المنورة .. تبايعان للمأمون
كان يتولي المدائن للأمين رجل يسمي البرمكي، ولما اقترب طاهر بن الحسين من المدائن أرسل طائفة من جيشه يتقدمهم بعض قواده وهم الحسن بْن علي المأموني وقريش بْن شبل، و الهادي بْن حفص، فلما سمع أصحاب البرمكي صوت طبول طاهر ورجاله، أسرجوا الدواب، وأخذوا في تعبيتهم، وأخذ البرمكي في تسوية الصفوف، فكلما سوى صفا انتقض واضطرب عليه أمرهم، فقال: اللهم إنا نعوذ بك من الخذلان، ثم التفت إلى أحد قواده فقال:
خل سبيل الناس، فإني أرى جندا لا خير عندهم، فركب بعضهم نحو بغداد، فنزل طاهر المدائن، وتقدم حتى صار إلى الدرزيجان (قرية تقع جنوب بغداد) ليجهز الحصار للأمين ويحيل حياته إلي جحيم.كان عام 196 هجريا من الأعوام المفصلية في الصراع بين الأخوين، بعد أن بدأت المدن المهمة تتساقط في يدي طاهر بن الحسين، كما شهد هذا العام خلع داود بْن عيسى والي مكة والمدينة للأمين، وبايع للمأمون.
وكان داود من عقلاء بني العباس وحكمائهم، وكان الأمين كتب إلى داود في بداية الصراع مع أخيه يأمره بخلع المأمون والبيعة لابنه موسى، وبعث الأمين إلى الكتابين اللذين كان الرشيد كتبهما وعلقهما في الكعبة فأخذهما، فلما فعل ذلك جمع داود حجبة الكعبة والقرشيين والفقهاء ومن كان شهد على ما في الكتابين من الشهود- وكان داود أحدهم- فقال داود: قد علمتم ما أخذ علينا وعليكم الرشيد من العهد والميثاق عند بيت الله الحرام حين بايعنا لابنيه، لنكونن مع المظلوم منهما على الظالم، ومع المبغي عليه على الباغي، ومع المغدور به على الغادر، فقد رأينا ورأيتم أن محمدا الأمين قد بدأ بالظلم والبغي والغدر على أخويه عبد الله المأمون والقاسم المؤتمن، وخلعهما وبايع لابنه الطفل، واستخرج الشرطين من الكعبة عاصيا ظالما، فحرقهما بالنار وقد رأيت خلعه، وأن أبايع لعبد الله المأمون بالخلافة، إذ كان مظلوما مبغيا عليه.
فقال له أهل مكة كما جاء في تاريخ الطبري: رأينا تبع لرأيك، ونحن خالعوه معك، فوعدهم صلاة الظهر- وذلك يوم الخميس 27 من رجب عام 196 هجريا- فبعد أن فرغ الناس من الصلاة وضع لداود المنبر بين الركن والمقام، فصعد فجلس عليه، وكان داود خطيبا فصيحا جهير الصوت، فلما اجتمع الناس قام خطيبا، فقال: الحمد لله مالك الملك، يؤتي الملك من يشاء، وينزع الملك ممن يشاء، ويعز من يشاء ويذل من يشاء، بيده الخير وهو عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شريك له، قائما بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، أرسله بالدين، وختم به النبيين، وجعله رحمة للعالمين، صلى الله عليه في الأولين والآخرين أما بعد :يا أهل مكة، فأنتم الأصل والفرع، والعشيرة والأسرة، والشركاء في النعمة، إلى بلدكم نفذ وفد الله، وإلى قبلتكم يأتم المسلمون، وقد علمتم ما أخذ عليكم الرشيد هارون رحمه الله عليه، حين بايع لابنيه محمد وعبد الله بين أظهركم من العهد والميثاق، لتنصرن المظلوم منهما على الظالم، والمبغى عليه على الباغي، والمغدور به على الغادر، ألا وقد علمتم وعلمنا أن محمد بْن هارون قد بدأ بالظلم والبغي والغدر، وخالف الشروط التي أعطاها من نفسه في بطن البيت الحرام، وقد حل لنا ولكم خلعه من الخلافة وتصييرها إلى المظلوم المبغي عليه المغدور به.
ألا وإني أشهدكم أني قد خلعت محمد بْن هارون من الخلافة كما خلعت قلنسوتي هذه من رأسي، وكانت حمراء، وأتى بقلنسوة سوداء هاشمية فلبسها- ثم قَالَ: قد بايعت لعبد الله المأمون أمير المؤمنين بالخلافة، ألا فقوموا إلى البيعة لخليفتكم، فبايعه وجوه القوم و الناس جماعة بعد أخري.
وكتب الى ابنه سليمان بْن داود وهو خليفته على المدينة، يأمره أن يفعل بأهل المدينة مثل ما فعل هو بأهل مكة، من خلع محمد والبيعة لعبد الله المأمون فلما رجع جواب البيعة من المدينة إلى داود وهو بمكة، رحل من فوره بنفسه وجماعة من ولده يريد المأمون بمرو حتى صار إليه فأعلمه ببيعته وخلعه محمدا ومسارعة أهل مكة وأهل المدينة إلى ذلك، فسر بذلك المأمون، وتيمن ببركة مكة والمدينة، إذ كانتا أول من بايعه، وكتب إلي رجالها كتابا لينا لطيفا يعدهم فيه الخير، ويبسط أملهم وأمر أن يكتب لداود عهد على مكة والمدينة وأعمالها، وخرج داود بْن عيسى مسرعا لإدراك الحج، ومعه ابن أخيه العباس بن موسى بن عيسى، وقد عقد المأمون للعباس بْن موسى بْن عيسى على ولاية الموسم.
( ولنتذكر أن الفضل بن سهل في بداية الصراع بين الأمين والمأمون نجح في استمالة العباس بن موسي وجعله عينا له وللمأمون علي الأمين، ووعده إن ظفر المأمون تكون له ولاية موسم الحج، وهذا ما حدث في ذلك العام 196 هجريا ).
فسار العباس بن موسي هو وعمه داود حتى نزلا بغداد على طاهر بْن الحسين، فأكرمهما وقربهما، وأحسن معونتهما، ووجه معهما يزيد بْن جرير القسري، وقد عقد له طاهر على ولاية اليمن، وبعث معه خيلا كثيفة، وضمن لهم يزيد أن يستميل قومه وعشيرته من ملوك أهل اليمن وأشرافهم، ليخلعوا الأمين ويبايعوا المأمون.
فساروا جميعا حتى دخلوا مكة وحضروا الحج، فلما فرغوا، انصرف العباس حتى اتى طاهر ابن الحسين- وهو على حصار الأمين وأقام داود بْن عيسى على عمله بمكة والمدينة، ومضى يزيد بْن جرير إلى اليمن، فدعا أهلها إلى خلع الأمين وبيعة المأمون، وقرأ عليهم كتابا من طاهر بْن الحسين يعدهم العدل والإنصاف، ويرغبهم في طاعة المأمون، ويعلمهم ما بسط المأمون من العدل في رعيته، فأجاب أهل اليمن إلى بيعة المأمون، واستبشروا بذلك، وبايعوا للمأمون، فسار فيهم يزيد بْن جرير بأحسن سيرة، وأظهر عدلا وإنصافا، وكتب بإجابتهم وبيعتهم الى المأمون وإلى طاهر ابن الحسين.
فماذا كان موقف الأمين بعد كل هذه المصائب التي توالت عليه كالسيل المنهمر ؟
وأين ذهب الفضل بن الربيع رأس الرمح في كل ذلك الخراب ؟
نجيب في الحلقة المقبلة إن شاء الله .